بعد اليوم الثالث في زنزانتي المنفردة، لم يكن الحفاظ على الشعور الطبيعي بالوقت، أمراً ممكناً. فعلى أرضية لا تتجاوز مساحتها الأربعة مترات مربعة، تحيطها جدران ملطخة بالدم، ما من شيء كثير يمكن فعله، إلاً انتظار القدر الذي لا يمكن تخمينه، أو مراقبة جيرانك/ شركائك في السكن.
الجرذان كانوا أول الشركاء الذين قدموا للترحيب بي، نازلة جديدة على مساحة يبدو أنهم قد أسسوا لمستقبل عائلتهم فيها، مع الوقت بات وجودهم مألوفاً حتى أنني كنت أفتقدهم في حال ذهبوا لزيارة أقرباء لهم في الزنازين المجاورة.
أحياناً كنت أجلس القرفصاء في إحدى زوايا بيتنا المشترك "زنزانتنا"، بينما هم يقبعون على المواسير الصدئة الممتدة باتجاهات مختلفة في سقف الغرفة، ونقضي ساعات نتساير، وأحياناً كان يبدوا عليهم الانهماك بشيء ما، فيقطعون جلستنا ويختفون وراء المواسير، فأبدأ بتتبع أصوات خطاهم حول السقف، ثم يخرجون من الزنزانة عبر حفرة في أعلى الجدار، ليعودوا بعد قليل محمّلين بالغنائم. يبدو أنّ غدائهم كان وفيراً في أغلب الأوقات فهم يحصلون على الحصة الأكبر من طعام المساجين.
غرفة التعذيب كانت خلف باب زنزانتي تماماً، منها كانت تصلني رائحة الدم طوال الوقت، وأثناء جولات التعذيب التي تتكرّر ثلاث مرات في اليوم، كنت أقبع في زاويتي أعدُّ ضربات الكرباج على أجساد من يصرخون ألماً في الخارج، وفي مرحلة ما من التعذيب، ولأمنع نفسي من الصراخ مثلهم، كنت أغلق عيني، أضغط أذني بكفي وأبدأ بالغناء بصوت متهدج.
خلال جولة التعذيب غالباً ما كانت تختفي الجرذان، فبينما كنت أغني كانت تخطر لي، فأفتح عيني وأبحث عنها فوق المواسير، لكنها لم تكن هناك، فأفكر: لا بدّ أنها تقبع في مكان ما، تغلق عينيها وأذنيها وتغني، فهذا أرحم من أن تكون شاهدة على موت شخص أو أكثر تحت التعذيب.
مرّة استيقظت على شعور غريب في يدي، وعندما فتحت عيني، كان أحد الجرذان يقف أمام وجهي مباشرة، والأخر يقف على يدي ويلعقها.
رميت الجرذ عن يدي وهببت واقفة وأنا أصرخ، فهربت الجرذان وتسلقت إلى عرشها فوق الباب، الذي فتحه السجان وهو يصيح بي: ماذا هناك؟ ألم أقل لك لا أريد سماع صوتك.
فأشرت له فوق الباب، حين رأى الجرذان، نظر إليّ بخبث وهمهم: أنت تخافين الجرذان! بقيت صامتة فأردف قائلاً: من يخاف من الجرذان لا يحق له أن يطالب بالحرية! ثم أدار ظهره لي وصفق الباب خلفه.
كان وقع جملته الأخيرة مضحكاً جداً، نظرت إلى الجرذان، التي كانت تنظر بدورها إليّ، متسائلة: ما علاقة الجرذان بالحرية؟!
كانت عائلة الجرذان تلك رفيقتي طوال فترة اعتقالي، ثم عندما أُطِلق سراحي، عرفت أن الجرذان كانت سبب حريتي، إذ نقلت لي مرض الحمى، وأوشكت على الموت، فقرر الضابط المسؤول إطلاق سراحي كي لا أموت عندهم.